الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز (نسخة منقحة)
بنصب هلك الثاني على أن الأول بدل، فكذلك يكون {إنما نملي} بدلاً من {الذين كفروا} كقوله تعالى: {وما أنسانيه إلا الشيطان أن أذكره} [الكهف: 63] وقوله: {وإذ يعدكم الله إحدى الطائفتين أنها لكم} [الأنفال: 7] ويكون {خيراً} المفعول الثاني قال أبو علي: لم يقرأ هذه القراءة أحد، وقد سألت أحمد بن موسى عنها فزعم أنه لم يقرأ بها أحد، ويظهر من كلام أبي علي أن أبا إسحاق إنما جوز المسألة مع قراءة {خير} بالرفع، وأبو علي أعلم لمشاهدته أبا إسحاق، وذكر قوم أن هذه القراءة تجوز على حذف مضاف تقديره: ولا تحسبن شأن الذين كفروا أنما نملي لهم، فهذا كقوله تعالى: {واسأل القرية} [يوسف: 82] وغير ذلك ويذهب الأستاذ أبو الحسن بن الباذش: إلى أنها تجوز على بدل أن من الذين وحذف المفعول لحسب، إذ الكلام يدل عليه.قال القاضي: والمسألة جائزة إذ المعنى لا تحسبن إملاءنا للذين كفروا خيراً لهم أو نحو هذا ومعنى هذه الآية: الرد على الكفار في قولهم: إن كوننا ظاهرين ممولين أصحة دليل على رضى الله بحالنا واستقامة طريقتنا عنده، فأخبر الله أن ذلك التأخير والإمهال إنما هو إملاء واستدارج، ليكتسبوا الآثام، وقال عبد الله بن مسعود: ما من نفس برة ولا فاجرة إلا والموت خير لها، أما البرة فلتسرع إلى رحمة الله، وقرأ {وما عند الله خير للأبرار} [آل عمران: 198] وأما الفاجرة فلئلا تزداد إثماً، وقرأ هذه الآية ووصف العذاب بالمهين معناه: التخسيس لهم: فقد يعذب من لا يهان، وذلك إذا اعتقدت إقالة عثرته يوماً ما.واختلف المفسرون في معنى قوله تعالى: {ما كان الله ليذر} فقال مجاهد وابن جريج وابن إسحاق وغيرهم: الخطاب للمؤمنين، والمعنى: ما كان الله ليدع المؤمنين مختلطين بالمنافقين مشكلاً أمرهم، يجري المنافق مجرى المؤمن، ولكنهم ميز بعضهم من بعض، بما ظهر من هؤلاء وهؤلاء في أحد من الأفعال والأقوال، وقال قتادة والسدي: الخطاب للكفار، والمعنى: حتى يميز المؤمنين من الكافرين بالإيمان والهجرة، وقال السدي وغيره: قال الكفار في بعض جدلهم: أنت يا محمد تزعم في الرجل منا أنه من أهل النار، وأنه إذا اتبعك من أهل الجنة، فكيف يصح هذا؟ ولكن أخبرنا بمن يؤمن منا وبمن يبقى على كفره، فنزلت الآية، فقيل لهم: لابد من التمييز {وما كان الله ليطلعكم على الغيب} فيمن يؤمن ولا فيمن يبقى كافراً ولكن هذا رسول الله مجتبى فآمنوا به. فإن آمنتم نجوتم وكان لكم أجر، وأما مجاهد وابن جريج وأهل القول، فقولهم في تأويل قوله تعالى: {وما كان الله ليطلعكم على الغيب} أنه في أمر أحد أي ما كان الله ليطلعكم على أنكم تهزمون، فكنتم تكعون عن هذا. وأيضاً فما كان ليطلعكم على المنافقين تصريحاً بهم وتسمية لهم، ولكن هذا بقرائن أفعالهم وأقوالهم في مثل هذا الموطن، وحتى- في قوله: {حتى يميز} غاية مجردة، لأن الكلام قبلها معناه: الله يخلص ما بينكم بابتلائه وامتحانه حتى يميز، وقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو وابن عامر وعاصم: {حتى يَمِيز}- بفتح الياء وكسر الميم وتخفيف الياء، وكذلك {ليميز}، وقرأ حمزة والكسائي: {حتى يُميِّز} و{ليميز الله} بضم الياء والتشديد، قال يعقوب بن السكيت: مزت وميزت، لغتان بمعنى واحد، قال أبو علي: وليس ميزت بمنقول من مزت، بدليل أن ميزت لا يتعدى إلى مفعولين وإنما يتعدى إلى مفعول واحد كمزت، كما أن {ألقيت} ليس بمنقول من لقي، إنما هو بمعنى أسقطت، والغيب هنا: ما غاب عن البشر مما هو في علم الله من الحوادث التي تحدث ومن الأسرار التي في قلوب المنافقين: ومن الأقوال التي يقولونها إذا غابوا عن الناس، قال الزجّاج وغيره: روي أن بعض الكفار قال: لم لا يكون جميعنا أنبياء؟ فنزلت هذه الآية، و{يجتبي}- معناه: يختار ويصطفي، وهي من جبيب الماء والمال، وباقي الآية بين والله المستعان.
فالمعنى جرى إلى السفه، وأما من قرأ {تحسبن} بالتاء من فوق ففي الكلام حذف مضاف هو المفعول الأول، تقديره ولا تحسبن يا محمد بخل الذين يبخلون خيراً لهم، قال الزّجاج، وهي مثل {واسأل القرية} [يوسف: 82] وقوله تعالى: {ولله ميراث السماوات} خطاب على ما يفعله البشر دال على فناء الجميع وأنه لا يبقى مالك إلى الله تعالى وإن كان ملكه تعالى على كل شيء لم يزل، وقرأ ابن كثير وأبو عمرو {والله بما يعملون} بالياء من أسفل على ذكر الذين يبخلون ويطوقون، وقرأ الباقون بالتاء من فوق، وذلك على الرجوع من الغيبة إلى المخاطبة لأنه قد تقدم: {وإن تؤمنوا وتتقوا} [آل عمران: 179].وقوله تعالى: {لقد سمع الله} الآية، قال ابن عباس: نزلت بسبب فنحاص اليهودي وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث أبا بكر الصديق رضي الله عنه إلى بيت المدراس ليدعوهم فوجد فيه جماعة من اليهود قد اجتمعوا على فنحاص- وهو حبرهم- فقال أبو بكر له: يا فنحاص اتق الله وأسلم فوالله إنك لتعلم أن محمداً رسول الله قد جاءكم بالحق من عند الله تجدونه مكتوباً عندكم في التوراة، فقال فنحاص: والله يا أبا بكر ما بنا إلى الله من حاجة وإنه إلينا لفقير وإنّا عنه لإغنياء، ولو كان غنياً لما استقرضنا أموالنا كما يزعم صاحبكم، في كلام طويل غضب أبو بكر منه، فرفع يده فلطم وجه فنحاص وسبه وهمَّ بقتله، ثم منعه من ذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال له: لا تحدث شيئاً حتى تنصرف إليَّ، ثم ذهب فنحاص إلى النبي صلى الله عليه وسلم فشكا فعل أبي بكر، فقال النبي صلى الله عليه وسلم لأبي بكر: ما حملك على ما صنعت؟ قال يا رسول الله: إنه قال قولاً عظيماً فلم أملك نفسي أن صنعت ما صنعت، فنزلت الآية في ذلك وقال قتادة: نزلت الآية في حيي بن أخطب، وذلك أنه لما نزلت {من ذا الذي يقرض الله قرضاً حسناً} [البقرة: 245] قال: يستقرضنا ربنا؟ إنما يستقرض الفقير الغني، وقال الحسن بن أبي الحسن ومعمر وقتادة أيضاً وغيرهم: لما نزلت {من ذا الذي يقرض الله قرضاً حسناً} [البقرة: 245]، قالت اليهود: إنما يستقرض الفقير من الغني، ولا محالة أن هذا قول صدر أولاً عن فنحاص وحيي وأشباههما من الأحبار ثم تقاولها اليهود، وهو قول يغلط به الأتباع ومن لا علم عنده بمقاصد الكلام، وهذا تحريف اليهود التأويل على نحو ما صنعوا في توراتهم وقوله تعالى: {قول الذين كفروا} دال على أنهم جماعة.قوله تعالى: {سَنَكْتُبُ مَا قَالُواْ وَقَتْلَهُمُ الأَنبِيَآءِ بِغَيْرِ حَقٍّ وَنَقُولُ ذُوقُواْ عَذَابَ الْحَرِيقِ ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلاَّمٍ لِّلْعَبِيدِ الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّ اللَّهَ عَهِدَ إِلَيْنَآ أَلاَّ نُؤْمِنَ لِرَسُولٍ حَتَّى يَأْتِيَنَا بِقُرْبَانٍ تَأْكُلُهُ النَّارُ}قرأ حمزة وحده {سيكتب} بالياء من أسفل على بناء الفعل للمفعول و{قتلُهم} برفع اللام عطفاً على المفعول الذي لم يسم فاعله، و{يقول} بالياء من أسفل، وقرأ الباقون بنون الجمع، فإما أنها نون العظمة، وإما هي للملائكة و{ما} على هذه القراءة مفعولة بها، و{قتلَهم} بنصب اللام عطفاً على {ما} {ونقول} بالنون على نحو {سنكتب} والمعنى في هاتين القراءتين قريب بعضه من بعض، قال الكسائي: وفي قراءة عبد الله بن مسعود {ويقال ذوقوا} وقال أبو معاذ النحوي في حرف ابن مسعود: {سنكتب ما يقولون ويقال لهم ذوقوا} وقرأ طلحة بن مصرف {سنكتب ما يقولون} وحكى أبو عمرو عنه أيضاً أنه قرأ {ستكتب} بتاء مرفوعة {ما قالوا}، بمعنى: ستكتب مقالتهم، وهذه الآية وعيد لهم، أي سيحصى عليهم قولهم، والكتب فيما قال كثير من العلماء هو في صحف تقيده الملائكة فيها، وتلك الصحف المكتوبة هي التي توزن وفيها يخلق الله الثقل والخفة بحسب العلم المكتوب فيها، وذهب قوم إلى أن الكتب عبارة عن الإحصاء وعدم الإهمال، فعبر عن ذلك بما تفهم العرب منه غاية الضبط والتقييد، فمعنى الآية: أن أقوال هؤلاء تكتب وأعمالهم، ويتصل ذلك بأفعال آبائهم من قتل الأنبياء بغير حق ونحوه، ثم يقال لجميعهم {ذوقوا عذاب الحريق} وخلطت الآية الآباء مع الأبناء في الضمائر، إذ الآباء هم الذين طوقوا لأبنائهم الكفر وإذ الأبناء راضون بأفعال الآباء متبعون لهم، والذوق مع العذاب مستعار، عبارة عن المباشرة، إذ الذوق من أبلغ أنواعها وحاسته مميزة جداً، و{الحريق} معناه: المحرق فعيل بمعنى مفعل وقيل: {الحريق} طبقة من طبقات جهنم.وقوله تعالى: {ذلك بما قدمت أيديكم} توبيخ وتوقيف داخل فيما يقال لهم يوم القيامة، ويحتمل أن يكون خطاباً لمعاصري النبي عليه السلام يوم نزول الآية، ونسب هذا التقديم إلى اليد إذ هي الكاسبة للأعمال في غالب أمر الإنسان، فأضيف كل كسب إليها، ثم بين تعالى: أنه يفعل هذا بعدل منه فيهم ووضع الشيء موضعه، والتقدير: وبأن الله {ليس بظلام للعبيد} وجمع عبداً في هذه الآية على عبيد، لأنه مكان تشفيق وتنجية من ظلم.وقوله تعالى: {الذين قالوا إن الله عهد إلينا} صفة راجعة إلى قوله: {الذين قالوا إن الله فقير} وقال الزجاج: {الذين} صفة للعبيد، وهذ مفسد للمعنى والرصف، وهذه المقالة قالتها أحبار يهود مدافعة لأمر النبي صلى الله عليه وسلم أي إنك لا تأتي بنار فنحن قد عهد إلينا أن لا نؤمن لك، و{عهد} معناه: أمر والعهد: أخص من الأمر، وذلك أنه في كل ما يتطاول أمره ويبقى في غابر الزمان، وتعدى آمن في هذه الآية باللام والباء في ضمن ذلك، {وقربان} مصدر سمي به الشيء الذي يقرب كالرهن، وكان أمر القربان حكماً قديماً في الأنبياء، ألا ترى أن ابني آدم قربا قرباناً، وذلك أنهم كانوا إذا ارادوا معرفة قبول الله تعالى لصدقة إنسان أو عمله أو صدق قوله، قرب قرباناً شاة أو بقرة ذبيحة أو بعض ذلك وجلعه في مكان للهواء وانتظر به ساعة، فتنزل نار من السماء فتحرق ذلك الشيء، فهذه علامة القبول، وإذا لم تنزل النار فليس ذلك العمل بمقبول، ثم كان هذا الحكم في أنبياء بني إسرائيل، وكانت النار أيضاً تنزل لأموال الغنائم فتحرقها، حتى أحلت الغنائم لمحمد صلى الله عليه وسلم حسب الحديث وروي عن عيسى بن عمر، أنه كان يقرأ {بقرُبان} بضم الراء وذلك للإتباع لضمة القاف وليست بلغة، لأنه ليس في الكلام فعلان بضم الفاء والعين، وقد حكى سبيويه: السلطان بضم اللام، وقال: إن ذلك على الإتباع.قوله تعالى: {قُلْ قَدْ جَآءَكُمْ رُسُلٌ مِّن قَبْلِى بِالْبَيِّنَاتِ وَبِالَّذِى قُلْتُمْ فَلِمَ قُتَلْتُمُوهُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ فَإِن كَذَّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَ رُسُلٌ مِّن قَبْلِكَ جَآءُو بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُورِ وَالْكِتَابِ الْمُنِيرِ}هذا رد عليهم في مقالتهم وتبيين لإبطالهم، أي: {قد جاءكم رسل} بالآيات الباهرة البينة، وفي جملتها ما قلتم من أمر القربان فلم قتلتموهم يا بني إسرائيل المعنى بل هذا منكم تعلل وتعنت، ولو أتيتكم بالقربان لتعللتم بغير ذلك، والاقتراح لا غاية له، ولا يجاب كل مقترح، ولم يجب الله مقترحاً إلا وقد أراد تعذيبه وأن لا يمهله، كقوم صالح وغيرهم، وكذلك قيل لمحمد في اقتراح قريش فأبى، وقال: بل أدعوهم وأعالجهم.ثم آنس تعالى نبيه بالأسوة والقدوة فيمن تقدم من الأنبياء أي: فلا يعظم عليك ذلك، وقرأ ابن عامر: و{بالزبر}: بإعادة باء الجر، وسقوطها على قراءة الجمهور متجه، لأن الواو شركت الزبر في الباء الأولى فاستغني عن إعادة الباء، وإعادتها أيضاً متجهة لأجل التأكيد، وكذلك ثبتت في مصاحف أهل الشام، وروي أيضاً عن ابن عامر إعادة الباء في قوله: {وبالكتاب المنير} و{الزبر}: الكتاب المكتوب يقال: زبرت الكتاب إذا كتبته، وزبرته إذا قرأته، والشاهد لأنه الكتاب قول امرئ القيس: [الطويل] وقال الزجّاج: زبرت كتبت، وذبرت بالذال، قرأت، و{المنير}: وزنه مفعل من النور أي سطع نوره.
|